اقتصاد أشيب وأنهار بلا ماء.. هل تستسلم «العجوز» للقحط التاريخي؟

قناة اليمن | متابعات

يتصارع اقتصاد “القارة العجوز” مع مجموعة من الظروف القاهرة حالياً؛ فمع استمرار التضخم الذي يضرب بيد من حديد على عصب الاقتصاد، استدار مسؤولو منطقة اليورو مجددا إلى مخاطر تغير المناخ التي تهدد الصناعة والزراعة والأمن الغذائي، وإلى الجفاف الذي أصاب أنهار أوروبا في “مقتل”.

واليوم، تقف “العجوز” على شفا ركود اقتصادي، حيث يضغط  ارتفاع الأسعار على إمدادات الغذاء والطاقة، ما يعني ضرورة التوجه نحو جعل الشحن الداخلي أكثر مرونة في الاتحاد الأوروبي،  بعد أربع سنوات من التوقف التاريخي لأعمال الشحن عبر الراين، بحسب وكالة بلومبيرغ للأنباء.

وتساهم حركة النقل النهري بنحو 80 مليار دولار في اقتصاد منطقة اليورو، بحسب بيانات هيئة “يوروستات”، إلا أن أزمة التغير المناخي التي ضربت شرايين المياه في أوروبا، تهدد بتبخير هذا المبلغ من اقتصاد الاتحاد الأوروبي إذا ما توقفت حركة النقل عبر الأنهار والقنوات المائية بالمنطقة.

ومن المتوقع أن يؤدي الجفاف الشديد إلى تراجع محصول الذرة في الاتحاد الأوروبي 15 بالمئة، لينخفض إلى أدنى مستوى له منذ 15 عاما، في وقت يواجه فيه الأوروبيون ارتفاع أسعار المواد الغذائية نتيجة انخفاض صادرات الحبوب من روسيا وأوكرانيا عن المعدل الطبيعي.

أنهار منهكة

وأنهك الجفاف نهر الراين الذي كان يعتبر أحد أهم أعمدة الاقتصاد في ألمانيا وهولندا وسويسرا لعدة قرون، مما يعيق حركة نقل البضاع من خلاله حاليا، بحسب وكالة بلومبيرغ.

ويواصل منسوب مياه نهر الراين في ألمانيا التراجع، حيث أبلغت السلطات السبت الماضي عن انخفاض بنحو 6 سنتيمترات خلال الـ 24 ساعة.

وبحسب بيانات الهيئة المسؤولة عن الممرات المائية والشحن في ألمانيا (جي دي دابليو إس)، فإن مستوى المياه في منطقة كاوب بولاية راينلاند-بفالتس، وهي منطقة مهمة لقطاع الشحن النهري، يبلغ الآن بين30 إلى 36 سنتيمتراً.

وقد تضطر السفن إلى وضع حمولة أقل بكثير عندما يكون مستوى المياه منخفضا، ما يعني أنه سيكون من الصعب نقل الفحم والنفط على نهر الراين، وقال المسؤول: “سيتعين في هذه الحالة نقل الكثير عن طريق البر والسكك الحديدية”.

ويتجه نهر “الراين” لأن يصبح غير سالك بشكل فعلي، عند نقطة عبور رئيسية في ألمانيا، حيث تؤدي المياه الضحلة، على طول النهر إلى تقييد شحنات منتجات الطاقة والسلع الصناعية الأخرى.

وأضرّت الحرارة الشديدة والظروف الجافة بشكل استثنائي في وادي بو بإيطاليا، الذي يُعدّ موطناً لنحو 30% من الإنتاج الزراعي في البلاد، بإنتاج الذرة وعباد الشمس وأجبرت مزارعي الأرز على قطع المساحات المزروعة بعد أن انخفض النهر إلى أدنى مستوى له منذ 70 عاماً.

وجعلت درجات الحرارة المرتفعة بالأنهار، من مياه نهري “رون” و”غارون” في فرنسا دافئة لدرجة باتت لا تسمح بتبريد مفعلات فرنسا النووية بشكل فعال، في انخفض منسوب مياه نهر “بو” في إيطاليا  بصورة  غير مسبوقة، وأصبح غاجزاً عن ري حقول الأرز.

ويتلاشى نهر الدانوب، الذي يشق طريقه عبر مساحة 1800 ميل بين وسط أوروبا والبحر الأسود، مما يعيق حركة تجارة عبره.

ويتسبب الجفاف الذي يصيب الأنهار في القارة العجوز، باضطرابات كبيرة في حركة التجارة عبر الأنهار، والتي تعد عنصرًا مهمًا للنقل بين الدول الأوروبية، وهذا يحدث، بعد أربعة سنوات فقط من توقف مشابه لحركة النقل التاريخية عبر نهر الراين الشهير، لتراجع منسوب المياه فيه خلال 2018، مما يزيد الضغوط على الاتحاد الأوروبي لدعم قطاعات النقل، في وقت يواجه فيه الاتحاد العديد من التحديات بسبب أزمة أوكرانيا. ونقص الغاز وغيرها.

فقدان 5 مليارات يورو

وربما يفقد اقتصاد منطقة اليورو نحو 5 مليارات يورو بسبب الأضرار التي تمنع حركة التجارة عبر نهر الراين حاليا، بحسب توقعات الاقتصادي المتخصص بقطاع النقل في بنك “إيه بي إن”، جان سوارت.

وقال سوارت إن قدرة الدول الأوروبية على استخدام النقل النهري أصبحت محدودة بشكل كبير، خاصة في ظل قلة الأمطار، ما يتسبب في زيادة تكلفة بدائل النقل الأخرى بشكل كبير؛ ففي يوم واحد، ارتفعت أسعار الشحن بنحو 30 بالمئة، بحسب سوارت.

معاناة

ومن المرجح أن تتضاعف معاناة ألمانيا من أزمة نقص الغاز، إذ أن صعوبة النقل النهري قد تعيق حركة نقل الفحم إلى ألمانيا، ما قد يهدد خطة الحكومة الألمانية لإعادة تشغيل محطات توليد الكهرباء باستخدام الفحم.

وأدى شح الأمطار هذا الصيف إلى انخفاض مستوى المياه في نهر الراين، الشريان التجاري للبلاد.

وتشي التوقعات بمزيد من الانخفاض في مستويات مياه الأنهار في أوروبا، ما يعني امتناع المزيد من القوارب وسفن الشحن عن العمل، وفق العضو المنتدب لشركة”ماينتانك” الألمانية للشحن، يواكيم هيسلر.

تحذير
وحذر المزارعون الألمان من احتمال حدوث خسائر كبيرة في المحاصيل خلال الأشهر المقبلة في الوقت الذي يكافحون فيه لمواجهة الجفاف وارتفاع تكاليف الطاقة، وفق كالة الأنباء الألمانية.

وفي الوقت الحالي يكافح المزارعون على عدة جبهات، أسعار الأسمدة أعلى بأربعة أضعاف مما كانت عليه قبل عام. وتكاليف الطاقة أعلى بمرتين. وتكاليف العلف… إذا لم تمطر باستمرار في وقت قريب، فسيكون هناك مخاطر بخسائر في المحاصيل تتراوح نسبتها بين 30 و40 في المئة، بحسبيواخيم روكفيد، رئيس اتحاد المزارعين الألمان، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية(د.ب.أ).

وقال روكفيد إنه رغم أن حصاد الحبوب يمتد على مدار هذا العام، فإن حصاد محاصيل الخريف، مثل البطاطس وبنجر السكر، لا يزال معلقا، وقال: “لا أريد استبعاد احتمال استمرار ارتفاع أسعار المحاصيل التي سيُجرى حصادها في الخريف على وجه الخصوص”.

وبطبيعة الحال، تضع حالة الطقس بوجه عام ضغطا على المزارع، وفق روكفيد، لافتاً إلى أن هناك بعض الأراضي بنية اللون وجافة لدرجة أن “لا شيء ينمو فيها مجددا على الإطلاق”.

ويجشم أقسى فصل صيف حار وجاف على صدر القطاع الزراعي في ألمانيا، ولكن في نهاية المطاف يُخشى أنه بسبب تغير المناخ لن نتمكن من الوصول إلى مستوى حصاد التسعينيات في المستقبل، وفق روكفيد.

وتسعى ألمانيا بجهد قوي لاتخاذ التدابير اللازمة لإبقاء نهر الراين مفتوحًا أمام حركة النقل، من خلال القيام باعمل التجريب، وإطلاق المياه من الخزانات لتعويض نقص المياه النابع من الجبال الجليدية

ورغم كل هذه الظرف القاسية، والخيارات التي تبدو شبه إجبارية،  فليس من الممكن للعديد من الشركات الاستغناء عن الممرات المائية، حيث تواجه شبكة السكك الحديدية في ألمانيا ازدحاماً مزمناً، في حين أن التحول إلى الطريق البري ليس بالأمر السهل أيضاً. إذ تحتاج ألمانيا، بحسب وكالة بلومبيرغ للأنباء، لأكثر من 110 شاحنات لنقل نفس الحمولة التي ينقلها صندل متوسط الحجم، بينما تعاني الدولة من عجز يصل إلى 80 ألف سائق شاحنة.

كل ذلك، يمثّل هذا الدمج تهديداً للمصانع الداخلية مثل مصنع “باسف” (BASF) في مدينة لودفيغسهافن، فضلاً عن ارتفاع أسعار الغاز مع وقف ألمانيا الاستيراد من روسيا. وإذا ازدادت صعوبة التنبؤ بحالة الأنهار، فستفقد هذه المرافق ميزة تنافسية.

جفاف صنابير

وتعاني فرنسا من أقسى موجة جفاف على الإطلاق، حيث تنقل الشاحنات المياه إلى عشرات القرى التي جفت فيها الصنابير، لذلك يحذر المزارعون بشدة من أن نقص الأعلاف قد يؤدي إلى نقص الحليب.

وتقف فرنسا، وهي الدولة المصدرة للكهرباء، عاجزة عن سد النقص المحتمل للكهرباء للدول الأوروبية، فنحو نصف مفاعلاتها النووية متوقفة لأعمال الصيانة، كما أن النرويج تقلل من تصدير الكهرباء حاليا بسبب اتجاهها لتوفير استهلاك الغاز، وملء احتياطاتها منه.

وفرضت فرنسا قيودًا على استخدام المياه حول البلاد، كما باتت نحو 100 بلدية تعتمد على مياه الشرب التي يتم نقلها بالشاحنات.

وبينما يكافح ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي مع أزمة طاقة، منحت الهيئة التنظيمية النووية الفرنسية هذا الأسبوع تنازلاً مؤقتاً لخمس محطات نووية لتصريف المياه الساخنة في الأنهار، وهو ما يُعدّ انتهاكاً للمعايير البيئية. تأتي هذه الخطوة في الوقت الذي سجلت فيه الأسعار طويلة الأجل أرقاماً قياسية جديدة في كل من فرنسا وألمانيا، وفق وكالة الشرق للأنباء.

مشكلة متفاقمة

وتفاقم مشكلة جفاف مصادر المياه بسبب تأثيرات تغير المناخ، التي ظهرت مؤخراً، في حدوث انخفاض كبير بمستويات المياه في نهر الدانوب والبحيرات والمياه الجوفية، وجفاف الينابيع المائية، وتوقف ري بعض المحاصيل، ما يشكل تحدياً كبيراً لقطاعات حيوية هامة تشمل الزراعة والسياحة والحياة البيئية، بحسب أحدث بيانات بيئية في النمسا.

وكشفت دراسات بيئية حدوث تراجع واضح في كمية المياه المتدفقة بنهر الدانوب إلى أقل من نصف الكمية المعتادة المسجلة في النمسا، ورصدت حدوث انخفاض في مستوى مياه النهر بعدة مدن نمساوية، شملت “كيتسندورف”، “کرمز” و “کورنيبروج” بالقرب من العاصمة فيينا.

وبينت الأرقام انخفاض مستوى المياه في عدد كبير من بحيرات النمسا، لاسيما في شرق البلاد، مثل البحيرات الثلاث الواقعة بولاية النمسا السفلى، “اختر سي”، “قورن سي”، “انومونن سي”، التي انخفض فيها مستوى سطح المياه بنحو 7 أمتار، مقارنة بعام 2009، وبمقدار مترين منذ العام السابق.

وتراجع مستوى المياه بأكبر بحيرة في أوروبا “نيوسيدلر سي”، الواقعة على الحدود النمساوية المجرية، إلى أدنى مستوى منذ عام 1965،بحسب هيئة الخدمات الهيدروغرافية.

وأكدت انخفاض مستوى المياه بواقع 20 سنتميرا، مقارنة بالعام السابق، وتسجيل مستوى يقل بأكثر من 40 سم، عن المستوى المتوسط، في ظل توقعات باستمرار موجة الجفاف الحالية في أغسطس الجاري بسبب ارتفاع درجة الحرارة إلى نحو 37 درجة في النمسا.

وتدرس النمسا حالياً تنفيذ مشروع مشترك مع المجر، لضخ مليون متر مكعب من مياه نهر الدانوب إلى بحيرة “نيوسيدلر سي”، لإنقاذها من الجفاف، ورفع منسوب المياه في البحيرة بمقدار 10 سم، عن طريق إنشاء قناة تنقل مياه نهر الدانوب من المجر لمسافة كيلومتر واحد، بهدف تعويض تراجع هطول الأمطار وزيادة معدل التبخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة.

المواشي عطشى

وتواجه إيطاليا موجة حر قوية، أدت لتراجع منسوب المياه في النهر لأدنى مستوى في نحو 70 عاما.

وتأتي المفارقة، أن أوروبا كانت تنوي الاعتماد بشكل كبير على الممرات المائية كجزء من جهودها لمكافحة التغير المناخي وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، إذ كانت تستهدف المفوضية الأوروبية زيادة النقل عبر الممرات المائية بنحو 25 بالمئة بحلول 2030.

ودفعت سويسرا بطائرات هليكوبتر عسكرية لنقل المياه جوا إلى المواشي العطشى التي تعاني تحت أشعة الشمس الحارقة في مروج جبال الألب في البلاد.

تضخم
تسبب ارتفاع معدل التضخم غير المسبوق، في “تسميم” اقتصاد اليورو، إذ قفز إلى مستوى قياسي، متأثرا بتداعيات الجفاف والحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على موسكو.

وارتفع التضخم في دول اليورو الـ19 الى 8.9 في المئة خلال يوليو، بعدما سجل 8.6 في المئة خلال يونيو و8,1 في المئة خلال مايو، الماضيين، بحسب مؤشر مكتب الإحصاءات الأوروبي “يوروستات”، وهي أعلى أرقام يسجلها “يوروستات” منذ بدء صدور المؤشر في يناير 1997.

وصعدت أسعار الطاقة بنسبة 39.7 في المئة، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 9.8  في المئة  والسلع الأخرى بنسبة 4.5 في المئة والخدمات 3.7 في المئة .

ويزداد قلق الأُسر مع الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية والطاقة، فضلا عن الجفاف الذي يتصدر قائمة تهديدات الاقتصاد والأمن الغذائي لمنطقة اليورو التي تضم 19 دولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى